"
معلومات عن تفاصيل وطريق المحمل الشريف في العهد العثماني ( 2 )في تركيا
تحدثنا في المقالة السابقة ( المحمل الشريف فخر السلاطين العثمانية ) بشكل عام عن تاريخ المحمل الشريف واهتمام السلاطين العثمانيين بها ولطول الموضوع قسمناها الى قسمين فعادة الزوار لا يحبذون المقالات الطويلة جدا وسنكتب في هذه المقالة عن تفاصيل المحمل الشريف وطريقها بدئا من خروجها من اسطنبول ووصولا الى المكة المكرمة .
ولو دخلت قصر الخلافة أي ""قصر طوب قابي"" لشاهدت نفس الشعور ونفس الحيوية والنشاط حيث تُزيَّن كل أرجاء القصر، وتقام الخيام العظيمة، وتُبسط السجاجيد والبُسط، وتعلق الستائر المذهبة، وتنثر الأزهار والورود الزاهية في أنحائه حتى يتحول إلى عروس رائعة الجمال. فالقصر يستقبل اليوم الذي يتحرك فيه موكب المحمل إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام. وتستمر الاحتفالات حتى الثاني عشر من شهر رجب حيث تمضي الأيام باستقبال الضيوف من أعيان وعلماء أتوا من بلاد مختلفة، وإكرامهم أحسن إكرام، وإلقاء الدروس الدينية، وتلاوة القرآن الكريم والأناشيد النبوية. فالقصر في مهرجان دائم وعيد سعيد حتى ذلك اليوم.
إستانبول تودع المحمل
يدخل السلطان إلى صالة الديوان، فيقوم له الحاضرون بإجلال عظيم، ويُتلى القرآن الكريم، ويأتي أغوات الحرم بأكياس ممتلئة بسجلات الصرة السلطانية ليتم تسليمها إلى أمين الصرة الذي يختاره السلطان من العلماء أو الجند أو الأشراف، كما يتم الإعلان عما تحتويه الصرة أمام السلطان والحاضرين، ويخرج الجميع إلى ساحة القصر الكبيرة حيث يكون الموكب جاهزا للانطلاق، وهو يتألف من مئات الجمال المحملة بالهدايا، ومئات من الفرسان المدججين بالسلاح، وعلى رأسهم ""جمل المحمل""، وهو جمل جميل الشكل مهيب البنية لا يستخدم لأي عمل سوى الحج، ويحمل كسوة الكعبة المعظمة والصرة السلطانية.
وتبدأ الحركة، ويبدأ صوت رخيم بتلاوة القرآن، ويمشي جمل المحمل بخطوات وئيدة فيمر من أمام السلطان، ويتبعه الموكب الكبير. ويثور الحنين إلى الأراضي المقدسة في القلوب، إذ لم يستطع أي منهم أن يزور تلك الأراضي، فيجد السلطان وأتباعه أنفسهم يسيرون خلف الموكب، ويخرج الموكب من حديقة القصر متجها إلى المرفأ.
الطريق تغص بالجماهير الذين حضروا ليعيشوا هذه اللحظات العظيمة، ويودعوا ذلك الحمل العزيز الذي يسافر إلى قرية الحبيب. وترتفع الأصوات بالأناشيد والأدعية، وتسيل الدموع على الخدود، ويبلغ الشوق إلى الحرم الشريف أقصاه. وبعد لحظات تتضاءل صورة الموكب وسط مياه البسفور على المراكب الشراعية كلما ابتعد عن الضفة الأوروبية واقترب من منطقة أسكدار في الضفة المقابلة... ويغيب تماما بعد قليل، وتعود الوجوه المودعة إلى منازلها وهي في شوق إلى اليوم الذي سيعود فيه.
وما أن يصل موكب المحمل إلى أُسكدار حتى ييمم وجهه شطر ديار الشام مجتازا أراضي الأناضول مدينة تلو أخرى. أما استقبال أهل الأناضول الأوفياء للمحمل فلا تسأل عن روعته ودفء اللقاء فيه. فالموكب يسير على طريق تناثرت عليها أزاهير الحب للحبيب المصطفى ؟. وكلما مر على مدينة انضم إليه المزمعون على الحج من الأهالي مودعين الأحباب بدموع ملؤها الشوق والود.
""الشام الشريف"" يستقبله
أخيرا يصل الموكب بحمله العزيز ومرافقيه الأوفياء إلى ""الشام الشريف""، وهو الاسم الذي أطلقه العثمانون على أراضي الشام. وتحط القافلة رحالها في دمشق الحبيبة، ملتقى قوافل الحجاج من كل أنحاء العالم. فإليها يتقاطر الحجاج من دول آسيا وجنوبي أوروبا وأفريقيا وأماكن أخرى من بلاد الإسلام، ومنها تسير الأفواج إلى الأراضي المقدسة.
مع فرحة اليوم الأول من عيد الفطر يبدأ الشوق إلى لقاء عيد الأضحى في الأراضي المباركة، وتبدأ مراسم المحمل حيث تصطف الفرق العسكرية أمام الجامع الأموي وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وتخرج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين وسط احتفال كبير.
وفي الأيام التالية يتجه الجميع إلى القلعة حيث اللواء النبوي الشريف القريب من ضريح الصحابي الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه، ويخرج اللواء باحترام كبير ويحمل إلى قصر الوالي في انتظار يوم الانطلاق.
ويأتي اليوم الموعود وهو اليوم الرابع من شهر شوال حيث يخرج المحمل الشريف مع اللواء السعيد والهدايا الكريمة الأخرى. ويعطي أمير الحج إشارة الانطلاق، فتبدأ الحركة ويسير المحمل الشريف وسط حشد كبير من المسؤولين والمرافقين والمودعين. يمر الموكب العظيم من باب الميدان ثم باب مصر متجها نحو قرية القدم، بينما يتهافت الناس من كل صوب يملأون الشوارع مهللين مكبرين مودعين، وأصوات المنشدين وقراء القرآن الكريم تضفي على سماء المدينة جوا روحانيا رفيعا وتثير في القلوب عواطف شجية رقيقة.
وفي قرية القدم، وهي المحطة الأخيرة قبل الإقلاع ينتظر الموكب أن تكتمل عدة السفر عشرة أيام، كما يوضع المحمل الشريف وكسوة الكعبة المعظمة والصرة السلطانية في صناديقها الخاصة وسط احتفالات كبيرة. وأخيرا تشد القافلة رحالها باسم الله ناحية الأراضي المقدسة.
"